لا نبالغ، إذا قلنا إن «إسرائيل» هي أكثر الكيانات قلقًا؛ بما تشهده مصر، وحتى أمريكا المعتمدة على النظام المصري اعتمادًا كبيرًا، في إدارة مصالحها في منطقتنا، وفي ملف السلام، وفي الشأن الفلسطيني؛ فضلاً عن الأهمية الاستراتيجية لمصر، موقعًا، وموضعًا، فإنها (أمريكا) لا تبدي القلق الذي تبديه إسرائيل، وهي لا تكتفي بإبداء القلق، بل إنها تقوم بحملة دبلوماسية، في الدوائر السياسية الغربية؛ لحمل دولها على تغيير موقفها من التحركات الخطرة التي تمر بها مصر.
ولا يخفى أن سبب القلق الذي يتزايد في «إسرائيل» يعود إلى تخوّفهم من انتقال الحكم في مصر إلى عناصر خارجة عن الطوق الدولي، والتبعية؛ وعلى الأخص، إذا كانت هذه القوى المسيطرة على الحكم ذات مرجعية إسلامية؛ ما ينعكس بالضرورة على اتفاقية السلام الموقعة، منذ سنة 1979م.
فرئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو يقول في مستهل جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت صباح يوم الأحد، 30 من يناير م2011، بأن إسرائيل تتابع عن كثب ما يجري في مصر والمنطقة. وقال نتنياهو: «إن المساعي التي نقوم بها تستهدف حماية الاستقرار والأمن في منطقتنا. أرجو تذكيركم بأن السلام بين إسرائيل ومصر مستمر منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث نسعى إلى ضمان استمرار هذه العلاقات».
وفي آخر الأخبار أن مسؤولين سياسيين وأمنيين إسرائيليين استغربوا دعوات الإدارة الأمريكية، ودول أوروبية للنظام المصري، بعدم قمع المظاهرات، وعبّروا عن معارضتهم لها، معتبرين أن هذه الانتفاضة الشعبية من شأنها أن توصل الإخوان المسلمين إلى الحكم، فيما سيضطر الجيش الإسرائيلي في حال سقوط النظام إلى إعادة تنظيم نفسه.
حالة القلق الإسرائيلية إذن طبيعية؛ لأن النظام الحالي كان الأكثر توفيرًا للاستقرار لهم، وكان الأكثر التزامًا بالخط الأمريكي، بانحيازه إلى الطرف الفلسطيني المنخرط في التفاوض، وفي التزاماته الدولية، وهو السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي لم يتوانَ فيه النظام المصري عن الإسهام في حصار غزة؛ بإغلاق معبر رفح، ومنع التهريب، عبر الأنفاق، كما شرع في بناء جدار فولاذي بين مصر وقطاع غزة؛ إمعانًا، في التضييق على غزة؛ لدفع حكومتها، إلى التوقيع على الورقة المصرية، وإبرام المصالحة، مع السلطة؛ وفق الرؤية الأمريكية.
ما سبب التباين الأمريكي الإسرائيلي؟
ولكن ما ينبغي تسليط الضوء عليه، في التحليل هو سبب الاختلاف بين أمريكا، وإسرائيل، إزاء المظاهرات التي تهدد حكم مبارك.
قد يكون من المفيد التذكُّر بأن حسابات أمريكا ليست بالضرورة متطابقة مع حسابات إسرائيل، في هذا الموضوع الشديد الحساسية، والتعقيد.
فأمريكا، مع حرصها، على النظام المصري المتحالف معها، إلاّ أن مصر البلد والدولة، أهم لها، من نظام مبارك؛ فإذا ما وجدت نفسها مخيّرة بين الاثنين، فإنها ستضحي، بالتأكيد بمبارك، على أن تُمسك بالقوى الصاعدة، أو تضمن ارتباط الحكام الجدد بها، والانخراط في مشاريعها، دون انقطاع.
ومن أجل ذلك، قد ترفع الغطاء عن النظام الحالي؛ إذا قدَّرت أنه أصبح بلا جدوى، أو أنه سقط جماهيريًا، على نحو يصعب معه ترميمه، أو إرجاع أية صدقية له. وهذا الموقف الأمريكي، متأرجح، ومرهون بالتغيرات الميدانية، وبموقف القوى المهمة في الدولة، وليس أقلها الجيش المصري.
هذه بالطبع، تقديراتها، وفق ما يترجح لنا: التضحية بمبارك، دون التضحية بنفوذها في مصر، هذه التقديرات، أو التدابير الأمريكية، ليست مضمونة النجاح، وقد تكون، وجزء من هذا معلن، تعمل على حمل النظام الحالي على إحداث تغييرات، وإصلاحات ترقى إلى مستوى من القبول الشعبي؛ ما يساعد على استعادة النظام لسيطرته، من جهته، ويقي أمريكا من الانكشاف التام، فيما يتعلق بصدق دعاويها للإصلاح الديموقراطي.
هذا ما يمكن أن يكون عليه الموقف الأمريكي؛ فهل تختلف عنه إسرائيل؟ ولمَ؟
بالطبع حسابات إسرائيل أكثر ضيقًا، إنها تخشى نظامًا أقل ليونة معها، في أحسن الأحوال؛ فقد لا تسمح واشنطن، بقدر ما تستطيع، بنظام يتنصل من اتفاقية السلام مع إسرائيل، ومع ذلك، فقد لا يكون النظام الجديد الذي يفترض فيها أن يكون أكثر اقترابًا من الشعب المصري ونبضه، على الدرجة نفسها من التقارب مع إسرائيل.
وفي حال تمكنت أمريكا من الاحتفاظ بنفوذها في مصر، بعد رحيل نظام مبارك؛ فقد تكون نجحت في ضرب عصفورين بحجر واحد، وهو امتصاص النقمة الجماهيرية العارمة، والتي تهدد بفقدان السيطرة تمامًا، مع بقاء نفوذها، والهدف الثاني حمل إسرائيل على السلام بالشروط الأمريكية، بإقامة دولة فلسطينية؛ ليس حبًّا في الفلسطينيين، والعرب، ولكن استجابة للدراسات والتحذيرات التي تضافرت على أهمية حل هذا النزاع، على نحو (معقول) لِما لعدم حله من آثار خطرة، على الوجود الأمريكي في العالم الإسلامي كله، وكيفية نظر الشعوب العربية والإسلامية إليها، ودور هذا الوضع الذي تبدو فيها أمريكا الداعم المطلق لإسرائيل، على غطرستها واستخفافها بالحقوق الفلسطينية التي تقرها الشرعية الدولية.
وفي هذا السياق أوردت صحيفة «هآرتس» أن «الشكوك الإسرائيلية حيال سياسة الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط التي بدأت بخطاب الرئيس باراك أوباما قبل عام ونصف العام في جامعة القاهرة، استبدلت الآن بالذهول، على ضوء الرسائل المتلعثمة الصادرة من واشنطن خلال اليومين الماضيين». فثمة ربْط إسرائيلي بين توجّهات أوباما التي أعلنها بداية إدارته، تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وبين الموقف الحالي لهذه الإدارة من أحداث مصر، تلك التوجّهات التي لم تُرضِ اليمين الإسرائيلي، حينها، وظل نتنياهو يعمل على التملّص من تلك المطالب الأمريكية، حتى بدا، وكأنّ إدارة أوباما ترضخ له، وتعجز عن تحقيق رؤيتها.
هذه القراءة تجنح إلى سيناريوهات أكثر واقعية، ومع ذلك تبقى القيادات السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني، أكثر تحسبًا، وقلقًا، من أمريكا؛ فإسرائيل دولة محتلة، ولا يزال الشعب المصري يكنُّ لها مشاعر العداء، ولا ينسى دماء جنوده، وأبنائه التي أُريقت في حربه معها، وعلى هذا الاحتمال الأكثر خطورة، وهو الذي لا تستبعده تلك القيادات يتوجب على إسرائيل أن توسّع من أعدائها المحتملين، وتعد لجبهة في الحرب جديدة... وسيترتب على هذا الخيار -الذي سيصبح أكثر واقعية- مزيد من النفقات والتدريبات، فقد ذكرت هآرتس «أن التدريبات والمناورات التي يجريها الجيش الإسرائيلي، منذ انتهاء حرب لبنان الثانية، ركزت حتى الآن، على محاربة حزب الله وحماس، وحاكت هذه التدريبات في أقصى حدٍّ احتمال حرب مع سورية، لكن لا أحد، مثلاً، تخيل احتمال دخول فيلق عسكري مصري إلى سيناء».
فما تأثير الثورة في مصر على رؤية إسرائيل للسلام؟
ومهما كانت النتيجة القريبة للمظاهرات القوية التي تشهدها مصر، من جهة سقوط سريع للنظام، ورحيل مبارك، أو بقائه، بعد إصلاحات وتغييرات، مصحوبة بوسائل قمع، أو وسائل سياسية تستفيد مثلاً، من انقسام المعارضة، أيًّا كانت النتائج، فإن العالم العربي، بعد ثورة مصر، ومن قبلها، تونس، ليس في المنظور الإسرائيلي هو العالم العربي قبلهما، وهذا قد يدفع إلى أحد احتمالين، إما نحو السلام وتلبية «استحقاقاته» على المسار الفلسطيني، وعلى المسار السوري؛ وذلك تفاديًا للتسبب في إحراج هذه النظم العربية، غير الخطرة على إسرائيل، أو التعجيل في نهايتها؛ ما يفتح الباب على نظم أكثر تطرّفًا في نظرها، وأكثر خطورة.
وإما أن تترجح كفّة اليمين المتطرف فيها؛ على أساس أن الوضع في العالم العربي شديد الهشاشة، وأن هذه النظم العربية لا تصلح للتعويل عليها في اتفاقيات سلام، ما دامت على هذه الدرجة من الضعف، وحينها ترتد إسرائيل إلى وهمها العسكري، الذي يدفعها إلى تعزيز الأمن، وما يُسمّى بقوة الرّدع.
فهل تسلك هذا السبيل وتسقط خيار التفاوض تمامًا؟ ثم هل ينفعها تسلُّحها، مهما بلغ، في عالم عربي متحرك، ومحتقن غيظًا من عدوانها، واستخفافها بالفلسطينيين والعرب، ومقدّساتهم؟!
إلى أحد احتمالين، إما نحو السلام وتلبية «استحقاقاته» على المسار الفلسطيني، وعلى المسار السوري؛ وذلك تفاديًا للتسبب في إحراج هذه النظم العربية، غير الخطرة على إسرائيل، أو التعجيل في نهايتها؛ ما يفتح الباب على نظم أكثر تطرّفًا في نظرها، وأكثر خطورة.
وإما أن تترجح كفّة اليمين المتطرف فيها؛ على أساس أن الوضع في العالم العربي شديد الهشاشة، وأن هذه النظم العربية لا تصلح للتعويل عليها في اتفاقيات سلام، ما دامت على هذه الدرجة من الضعف، وحينها ترتد إسرائيل إلى وهمها العسكري، الذي يدفعها إلى تعزيز الأمن، وما يُسمّى بقوة الرّدع.
فهل تسلك هذا السبيل وتسقط خيار التفاوض تمامًا؟ ثم هل ينفعها تسلُّحها، مهما بلغ، في عالم عربي متحرك، ومحتقن غيظًا من عدوانها، واستخفافها بالفلسطينيين والعرب، ومقدّساتهم؟!